🕰️ في زمنٍ يتحرك بسرعة التكنولوجيا والرقمنة والنجاعة، تبقى التسعيرة المتجمدة في الموانئ التونسية واحدة من أبرز العوائق التي تحول دون تطوير قطاع النقل البحري. فكيف يمكن بناء “ميناء ذكي” بتسعيرة لا تواكب الواقع ولا تعكس الكلفة الحقيقية للاستغلال؟
1. الموانئ التونسية: من فضاء عبور إلى ساحات تخزين
تشهد موانئ تونس، وخاصة ميناء رادس، اكتظاظًا مستمرًا بالحاويات. وتحوّلت من مراكز حركة ونقل إلى ما يشبه “المخازن المفتوحة”، بسبب طول مدة بقاء الحاويات دون سحب، محدودية الفضاءات وعدم تجديد المعدات، غياب سياسة رادعة للمتقاعسين عن سحب البضائع، ضعف القدرة على تتبع الحاويات بشكل رقمي، ووجود ثغرات في منظومة المراقبة والمحاسبة.
2. الأسباب الهيكلية للاختناق
تُعد التعريفة المينائية المنخفضة من أبرز الأسباب التي تُشجّع على التراخي في رفع البضائع، إذ تجعل التخزين داخل الميناء أقل كلفة من النقل إلى المخازن الخاصة. كما أن غياب آليات تحفيزية أو عقابية يُفاقم الوضع؛ فلا امتيازات تُمنح لمن يسحب حاوياته بسرعة، ولا رسوم إضافية تُفرض على التأخير غير المبرر.
إلى جانب ذلك، هناك ضعف في الربط بين التسعيرة وجودة الخدمة، إذ لا تواكب التسعيرة حجم الضغط على الأرصفة والمعدات، ولا تُمكّن من تغطية كلفة التشغيل والصيانة. كما أن عدم تحديث منظومة الأسعار منذ سنوات رغم تغيّر أسعار المحروقات، قطع الغيار، والأجور، أدى إلى خلل واضح في التوازن المالي.
3. لماذا يجب تعديل التسعيرة الآن؟
لأن تكلفة الوقود، وقطع الغيار، وأجور العمال ارتفعت بشكل كبير، مما يجعل المنظومة الحالية غير مستدامة ماليًا. كما أن الميناء يجب أن يكون محطة عبور، لا مستودعًا مجانيًا. إصلاح التعريفة هو مدخل أساسي لأي مشروع هيكلة حديثة أو رقمنة فعلية، والاستثمار في المعدات الحديثة يتطلب مداخيل متوازنة. المؤسسات اللوجستية العمومية مطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى بتحقيق مردودية وتوازن مالي لضمان استمرارية الخدمة وجودتها.
4. الأهداف المنتظرة من تعديل التعريفة
من أبرز الأهداف تحويل الميناء إلى نقطة عبور سريعة للبضائع وتحفيز أصحاب البضائع على سحبها في أقرب الآجال. كما أن تعديل التسعيرة سيدعم استثمارات الدولة والمؤسسات في المعدات والرقمنة، ويساهم في تقليص زمن الانتظار ودوران الحاويات. بالإضافة إلى ذلك، فإن تحسين جودة الخدمات المينائية وتعزيز صورة تونس في محيطها الإقليمي والدولي يُعدّ من أهم المكاسب المنتظرة.
5. كيف تكون التسعيرة الجديدة عادلة وفعالة؟
لكي تكون التسعيرة الجديدة فعالة، يجب أن تكون متدرجة حسب مدة بقاء الحاوية. ويُستحسن منح إعفاءات أو تخفيضات لمن يسحب البضاعة في اليوم نفسه أو في آجال قصيرة، مقابل فرض رسوم تصاعدية على التأخير والتخزين غير المبرر. كما أن الشفافية في طريقة احتساب الكلفة وربطها بجودة الخدمة تُعد شرطًا أساسيًا. يُضاف إلى ذلك ضرورة نشر دليل أسعار موحّد ومحدث دوريًا لتعزيز ثقة المتعاملين وضمان الوضوح.
6. علاقة التعريفة بالحوكمة والهيكلة
إعادة الهيكلة المينائية لا تكتمل دون إصلاح مالي جذري. فالحديث عن “أداء” و”تحسين” و”رقمنة” دون تمويل كافٍ هو مجرد تمنيات. لذلك، فإنّ رفع التعريفة بشكل عقلاني ومدروس يُوفر موارد ضرورية للصيانة والتجهيز، ويُخفّف الضغط على الأرصفة، ويُغيّر سلوك المتعاملين الاقتصاديين، ويُعيد التوازن إلى سلسلة الخدمات اللوجستية.
7. مقترحات مكملة لإنجاح الإصلاح التسعيري
يُقترح ربط نظام التعريفة بمنظومة معلوماتية رقمية تُحتسب فيها الآجال تلقائيًا. كما يمكن تفعيل نظام تنبيه وإشعار آلي لأصحاب الحاويات قبل فرض الرسوم التصاعدية. ومن المهم أيضًا تخصيص موارد من مداخيل التعريفة لتحسين الأداء البيئي داخل الموانئ، عبر اقتناء معدات كهربائية وتقليص الانبعاثات. ولا يمكن إنجاح هذا الإصلاح إلا من خلال تنسيق دائم بين السلط البحرية، الجمارك، الوكلاء البحريين، والمستغلين لضمان تطبيق عادل وفعّال للتعريفة الجديدة.
خاتمة:
إن الاقتصاد التونسي لا يستطيع أن يتحمل أكثر من ذلك كلفة التخزين المجاني، أو ضياع الوقت، أو ضعف الإنتاجية. والتسعيرة المناسبة هي أول خطوة في مسار طويل من الإصلاح، وهي التي ستمكّن من استرجاع النسق الطبيعي لدور الميناء: العبور السريع، والخدمة الناجعة، والدورة الاقتصادية الديناميكية.
ختاماً، فإن تونس مطالبة اليوم بأن تتجاوز منطق التجميد، وأن تتبنى منطق التحفيز. لن نُصلح الموانئ إذا لم نُصلح أدوات التسيير المالي، وعلى رأسها التسعيرة. ولن نسترجع مكانتنا الإقليمية إلا إذا أعدنا الاعتبار لدور الميناء كمؤسسة اقتصادية استراتيجية، لا كمخزن عمومي.
📣 رسالتنا اليوم واضحة:
⬅️ الزيادة في التعريفة المينائية ليست قرارًا عشوائيًا، بل أداة إصلاح وتعديل سلوك.
⬅️ من يشغُل فضاءً عامًا (الميناء) يجب أن يُحاسب على الوقت والضغط الذي يُسببه.
⬅️ من يُسرّع في سحب بضائعه… يجب أن يستفيد من امتيازات.
🇹🇳 تونس اليوم بحاجة إلى موانئ ذات مردودية، لا مستودعات عمومية مجانية. وهذا لا يتحقق إلا بإصلاح التسعيرة، وتطبيق صارم، وهيكلة شاملة.