عندما يشرع الإنسان في الحديث عن مرفأ بحري كميناء رادس، يجد نفسه أمام تاريخ حي يختزل في أمواجه المتلاطمة وأرصفته الضاجة حركة الحياة الاقتصادية والاجتماعية لتونس. فهذا الميناء، الأكبر من حيث الحجم والأهمية التجارية في البلاد، يكاد يكون رمزًا من رموز السيادة الوطنية، وجزءًا لا يتجزأ من ذاكرة تونس الحديثة.
إن الذي يزور ميناء رادس اليوم يشهد حركة دائمة لا تهدأ: شاحنات قادمة ومغادرة، حاويات تتراكم هنا وهناك كأنها جبال من الحديد والفولاذ، وسفن ضخمة ترسو وترحل في صمت مهيب. هذه الصورة، رغم حركتها، لا تخلو من إشكالات وتحديات كبرى تلقي بظلالها على حاضر ومستقبل الاقتصاد التونسي.
أهمية ميناء رادس في الاقتصاد التونسي
ليس من باب المبالغة القول إن ميناء رادس هو القلب النابض للاقتصاد التونسي. فكل بضاعة تصل إلى تونس أو تخرج منها تمر عبر هذا المرفأ الحيوي، وهو مسؤول وحده عن قرابة 80% من الحركة التجارية بالحاويات في البلاد. يزداد هذا الدور أهمية حين ندرك أنه يمثل البوابة الرئيسة التي تربط تونس بالعالم، وخاصة دول الاتحاد الأوروبي ودول البحر المتوسط.
إن هذا الموقع الاستراتيجي أضاف للميناء مسؤولية عظيمة، وجعله محورًا أساسيًا في السياسات الاقتصادية والتجارية للدولة. ولكنه أيضًا جعله تحت مجهر الأزمات والتحديات المستمرة التي تواجه القطاعات الحيوية ذات التأثير المباشر على معيشة المواطنين التونسيين.
تحديات ميناء رادس: الواقع الصعب
إنني، وأنا أتحدث عن هذه التحديات، لا أجد بُدًّا من أن أكون صريحًا، فالصراحة وحدها هي التي تبني وتؤسس وتُغير. يعاني ميناء رادس اليوم من حالة ازدحام تكاد تكون مزمنة، إذ تتكدس الحاويات لساعات وأيام في انتظار الشحن أو التفريغ. وما يزيد الأمر صعوبة هو تأخر عمليات المناولة التي لا تزال تعتمد بشكل كبير على الوسائل التقليدية القديمة.
هذا الازدحام الذي يخنق الشريان الحيوي للاقتصاد يؤدي إلى خسائر مالية فادحة، تتحمل تبعاتها الشركات الوطنية والأجنبية على حد سواء، ناهيك عن الآثار الجانبية من ارتفاع الأسعار وندرة بعض السلع في الأسواق المحلية.
والحقيقة التي لا يمكن تجاهلها هي أن هذه التحديات لم تأتِ من فراغ، بل نتجت عن عقود من سوء التخطيط، وضعف الاستثمار في التكنولوجيا الحديثة، وغياب استراتيجية وطنية واضحة تواكب متطلبات القرن الحادي والعشرين.
فرص التحديث والتطوير
ولكن الأمل وحده لا يكفي دون خطوات عملية وجادة لتغيير الواقع, هكذا تعلمنا دروس التاريخ. وأمام هذه التحديات، يبرز مشروع تحديث ميناء رادس كفرصة تاريخية حقيقية لتغيير الواقع وتحسين الأداء العام لهذا المرفق الحيوي. ويدور هذا التحديث حول محور رئيسي هو إدخال نظام تكنولوجي متطور يُعرف بنظام Navis N4.
هذا النظام، الذي يُعَدُّ ثورة رقمية حقيقية في عالم الموانئ، يمكن أن يُغير وجه ميناء رادس تمامًا، ويجعله ينافس الموانئ الكبرى في العالم من حيث سرعة المناولة وجودة الخدمات. فهو يُمكّن من تتبع الحاويات إلكترونيًا، ويتيح إدارة أفضل للموارد البشرية والمادية، مما يقلل من زمن الانتظار بشكل كبير ويحسن جودة العمليات المينائية.
دور STAM في إدارة المستقبل
ولا يمكن الحديث عن تحديث ميناء رادس دون التطرق إلى دور الشركة التونسية للشحن والترصيف (STAM)، التي تتحمل مسؤولية مباشرة في إدارة هذا المرفق. فعلى عاتقها تقع مهمة تطبيق نظام Navis N4 وضمان نجاحه، إلى جانب تحسين كفاءة العاملين وتوفير التدريب المستمر لهم.
إن نجاح STAM في تحقيق هذه الأهداف لن يكون مجرد إنجاز إداري أو تشغيلي محدود، بل سيمثل انطلاقة جديدة ونقلة نوعية تُعيد صياغة دور ميناء رادس بشكل كامل، وتفتح آفاقًا رحبة لتعزيز مكانة تونس على الساحة الاقتصادية الدولية، مستفيدة من تجارب دولية ناجحة في هذا المجال.، بل سيكون نجاحًا لتونس بأكملها، وسيعيد للميناء دوره المركزي في تعزيز الاقتصاد الوطني وفتح آفاق جديدة من الفرص التجارية والاستثمارية.
إن تونس اليوم تقف عند مفترق طرق هام، بين استمرار الوضع الحالي بمشاكله وصعوباته، وبين مستقبل واعد يقوم على التكنولوجيا والحداثة وحسن التخطيط. وعلى الدولة وأبنائها أن يختاروا هذا المستقبل بكل عزيمة وإصرار.
ميناء رادس، بعمقه التاريخي وموقعه الاستراتيجي الحيوي، يحتاج إلى قفزة نوعية تتجاوز بها تونس تحديات الماضي، نحو فضاء أوسع من الحداثة والتكنولوجيا والتطوير المستدام. آن الأوان لأن يتحرر هذا المرفأ من قيود الروتين والإجراءات البالية، ليكون نموذجًا رائدًا في الكفاءة التشغيلية والابتكار اللوجستي، ويُرسي قواعد مستقبل زاهر من النمو الاقتصادي والتنمية المستدامة التي تليق بتاريخ تونس وطموحات شعبها.